ينشأ العربي على العادات والتقاليد الصارمة، وعلى المحرمات والأعراف والأوامر الجازمة. والتنشئة الاجتماعية التي تقوم على ثقافة العيب والحرام في المجتمعات العربية، تربي الخوف وتعززه، وتجعل منه وحشًا ضاريًا يفتك بالإنسان العربي، فيصبح الخوف رديف حياته، فهو يخاف من أهله، ومما يقول الآخرون عنه، ومن مجتمعه، ومن قمع النظام السياسي له، ومن كل شيء تقريبًا، بل حتى يخاف من نفسه، فكل ما يفعله يكون تحت المجهر، وتنطبق عليه قواعد العيب والحرام، في حين أنه في المجتمع الغربي كل فرد في حال سبيله، وكل فرد يعتمد على قدراته وعلى نفسه، وفيه شيء من الأنانية، وغالبًا كل فرد لا يفكر إلا في نفسه، لكن القانون الذي يُطبق على الجميع سواسية يضع حدودًا لأفعال الفرد وعلاقته بالآخرين.
وهذا الخوف يجعل الإنسان العربي يمارس المتناقضات في حياته، بين القول والفعل، وبين ما يفعله علنًا وما يمارسه سرًّا، بين فعل ما يرغب فيه ويريده سرًّا، وبين ما يُجاهر به ويظهر عليه علنًا أمام الناس.
والخوف من المجتمع يُعلّم الكذب، فمنذ الصغر يكذب الطفل على أبيه وأمه وأسرته؛ لكي ينجو من فعلته ومن العقاب الذي قد يحيق به جراء قول الحقيقة، ثم يكذب على أصدقائه وجيرانه، وبالطبع على نفسه، ويُصدّق كذبه، فيتعود على الكذب، ليصبح عادة متأصلة فيه للأسف.
والإنسان العربي غالبًا يمارس ما يحب ويرغب فيه سرًّا، ولا يجاهر به علنًا، بل وربما يجاهر أمام الناس ضد ما يمارسه سرًّا، فهو مثلًا يمكن أن يكون مثليًّا ويمارس اللواط سرًّا، لكنه أمام الآخرين يدّعي عكس ذلك، في حين أن الغربي يجاهر بذلك ولا يهمه رأي الآخرين فيه، وكذلك بالنسبة للفرد من الجنس الثالث الذي لا يخجل في الغرب أن يجاهر بجنسه المختلف؛ ذلك أن القانون في الغرب يحترم الإنسان أيَّا كان، فكل فرد له حقوق وعليه واجبات، ومن أهم حقوقه الحرية، ومن أهم واجباته احترام حرية الآخرين في معتقداتهم، وأفكارهم، وممارساتهم، شرط ألا يعتدي على حقوق الغير.
ترى الرجل العربي يمكن أن يمارس الدعارة سرًّا في بلده؛ حبًّا في النساء، لكنه يُجاهر بما هو عكس ذلك، بل ويدّعي التدين والورع والفضيلة، لكن عندما يسافر تجده يحيط نفسه بالنساء في الملاهي والبارات، في حين أن الغربي يُجاهر برفقة صديقته أو عشيقته، ويتفاخر بالفحولة ومغازلة النساء. وبالطبع لا نشجع على أي من هذه الممارسات، لكننا نؤمن بأن الأمور نسبية، ونرى بأن مقدار الكذب الذي يُمارس في المجتمعات العربية يفوق عشرات المرات على الكذب في المجتمعات الغربية.
ناهيك عن الأخلاق والسلوك العام، ففي حين أن قرآننا العظيم يجمع بين دفتيه كل الأخلاق الحميدة والمُثل السامية، مثل: الصدق، والنظافة، والأمانة، وغيرها، ترى العربي يرمي الفضلات في الشوارع ماشيًا أو راكبًا بدون أن يرفّ له طرف، في حين أن الغربي يرى بأن النظافة سلوك حضاري. وترى العربي يسرق ويفسد بدون أن يشعر بتأنيب الضمير، وترى العربي يكذب ويكذب حتى تظن أن المجتمع يقوم على النفاق والكذب. ذلك أن المجتمع الغربي به قانون يُطبق على الجميع بلا استثناء، وكل مجرم أو جانح يلقى جزاءه، في حين أن المجتمعات العربية يرى العربي فيها يوميًّا المعايير المزدوجة في تطبيق القانون، والتي تتدخل فيها القبلية، والطائفية، والنسب، والحسب، والمال، والرشاوى، من تحت الطاولة ومن فوقها.
ونرى بأن المخرج الأولي والأساسي لهذا الوضع العربي المتناقض والمقلوب، هو سيادة القانون وتطبيقه على الجميع سواسية، بلا محاباة وبلا فروق قبلية، أو دينية، أو مذهبية، أو عرقية، أو طبقية. فهل سيأتي اليوم الذي نرى فيه ذلك؟
------------------------
بقلم: د. أنيسة فخرو